فصل: الخبر عن مهلك السلطان أبي زكرياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم

وتصاريف أحوالهم ومآل أمرهم كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود وقدموا عليهم أحمد الينشتي وتسمى بالموفق‏.‏ ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عندما بايعه أهل إشبيلية سنة خمس وثلاثين‏.‏ وتقبضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيد أبي سعيد كان والياً بغمراة فولوه عليهم‏.‏ ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي علي بن خلاص كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلى فيها ودفعه إلى الأعمال فضبطها فولاه سبتة فاستقل بها‏.‏ وولى على طنجة يوسف ابن الأمير قائداً على الرحل الأندلسي وضابطاً لقصبتها‏.‏ حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وقد استفحل أمر الأمير أبي زكرياء بأفريقية واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس فصرف ابن خلاص وجهه إليه‏.‏ وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال فدخل في دعوته وبعث الوفد ببيعته‏.‏ واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا‏.‏ وعقد لابن خلاص على سبتة وما إليها فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سماه الميمون وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافداً على السلطان ومعه الأديب إبراهيم بن سهل فعطب عند إقلاعه‏.‏ ولما رجع الأسطول من إشبيلية كما قدمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي علي بن خلاص على ابنه رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة فانتقل بأهله واحتمل زخيرته‏.‏ ولما مر الأسطول بمرسى وهران نزل بساحلها فأراح وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجاءة سنة ست وأربعين‏.‏ وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى بن زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص‏.‏ وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي كان صديقاً لشفاف وعدواً لابن الجد‏.‏ ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولاه الأمير أبو زكرياء الخبر عن بيعة المرية لما هلك محمد بن هود بالمرية سنة خمس وثلاثين كما ذكرناه واسبتد وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها وضبها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكرياء حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته‏.‏ ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث وأربعين كما ذكرناه في أخباره‏.‏ وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته وأحله أبو علي بن خلاص محل البر والتكرمة وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش وأجمع الثورة بأبي خلاص فنذر به وتغير له‏.‏ قلما رجع الأسطول من إشبيلية ركبه الرميمي ولحق بتونس فنزل على الأمير أبي زكرياء وحل من حضرته محل التكرمة‏.‏ واستوطن تونس وتملك بها الضياع والقرى وشيد القصور إلى أن هلك والبقاء لله وحده‏.‏

 الخبر عن بيعة ابن الأحمر

كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة وتملك جيان وقرطبة وإشبيلية وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته‏.‏ ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين عندما بايعه أهل إشبيلية وسبته فلم يزلا على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكرياء بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة فحول ابن الأحمر إليه الدعوة وأوفد بها أبا بكر بن عياش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكرياء بالأموال للنفقات الجهادية‏.‏ ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبد بسلطانه‏.‏

 الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها

كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين والياً بسلجماسة لبني عبد المؤمن‏.‏ ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتباً فلم يعتبه‏.‏ ومزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكرياء على تلمسان ونواحيها فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته فعقد له الأمير أبو زكرياء على سجلماسة وأنحائها وفوض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها‏.‏ وخطب له عبد الله بسجلماسة وفر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك وأبو سعيد العود‏:‏ الرطب فلحق بتونس‏.‏ وأقام أبو زيد معه بسجلماسة‏.‏ وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وقيل سنة أربعين ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة‏.‏ وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به فخرج من سجلماسة وأسلمها وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي‏.‏ وطير بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته وغفر له سالفته‏.‏ وتقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه‏.‏

 الخبر في بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين

كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلبهم في القفار فتن وحروب ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع‏.‏ فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد لبعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل‏.‏ ولما استبد الأمير أبو زكرياء بأمر إفريقية ودوخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان وأطاعه بنو عبد الواد حذر بنو مرين حينئذ غائلتهم‏.‏ وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكرياء عليهم فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة وخاطبوه بالتمويل وأوجبوا له حق الخلافة ووعدوه أن يكونوا أنصاراً لدعوته وأعواناً في أمره ومقدمة في عسكره إلى مراكش وزحفه‏.‏ وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم والاعتصام ببيعتهم ولم تزل المخاطبات بينهم وفي الأمير أبي زكرياء في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده‏.‏ ورسلهم تفد عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد‏.‏ وقد استولى الأمير أبو زكرياء على تلمسان ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته‏.‏ وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثبوا به وقتلوه‏.‏ وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق فحملهم على بيعة الأمير أبي زكرياء فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين‏.‏ وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده‏.‏ وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده واعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف‏.‏

 الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيي زكرياء

ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد إلى أخيه محمد كان الأمير أبو زكرياء قد عقد لابنه أبي يحيى زكرياء على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسطنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين كما ذكرناه فاستقل بذلك وكان بمكان من الترشيح للخلاف بنفسه وجلاله وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل‏.‏ فولاه الأمير أبو زكرياء عهده سنة ثمان وثلاثين وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره‏.‏ وكتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه ونصها‏:‏ اعلم سددك الله وأرشدك وهداك لما يرضيه وأسعدك وجعلك محمود السيرة مأمون السريرة‏.‏ إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه وجعله مسؤولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه أن يقدم رضى الله عز وجل في كل أمر يحاوله وأن يكل أمره وحوله وقوته لله ويكون عمله وسعيه وذبه عن المسلمين وحربه وجهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه والبراءة من الحول والقوة إليه‏.‏ ومتى فاجأك أمر مقلق أو ورد عليك نبأ مرهق فريض لبك وسكن جأشك وارع عواقب أمر تأتيه وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه‏.‏ ولا تقدم إقدام الجاهل ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل‏.‏ واعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله وقصر عن مقاومته رجاله فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم وفي التجارب من نبهائهم‏.‏ ثم الإقدام عليه والتوكل على الله فيما لديه والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره والصغير على قدره‏.‏ ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك وتغلطه في نفسه وتفسد نية الكبير وتؤثره عليك فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك‏.‏ واتخذ كبيرهم أباً وصغيرهم ابناً وأخفض لهم جناح الذل من الرحمة وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏.‏ واتخذ نفسك صغيرة وذاتك حقيرة وحقر أمورك ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين بأنك أعظم الناس قدراً وأكثرهم بذلا وأحسنهم سيرة وأجملهم صبراً فذاك غرور وبهتان وزور‏.‏ واعلم أن من تواضع لله رفعه الله‏.‏ وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم ولا تنم عن مصالحهم ولا تسامح أحداً فيهم‏.‏ ومهما دعيت لكشف ملمة فاكشفها عنهم ولا تراع فيهم كبيراً ولا صغيراً إذا عدل عن الحق‏.‏ ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلا ولا ذمة ولا تقتصر على شخص واحد في مسائل الرعية والمتظلمين‏.‏ ولا تقف عند مراده في أحوالهم‏.‏ واتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين لهم في جانب الله أوفر نصيب وفي رفع مسائل خلقه إليك أسرع مجيب‏.‏ وليكن سؤالك لهم أفذاذ فإنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه حمله الهوى على الميل ودعته الحمية إلى تجنب الحق وترك قول الصدق‏.‏ وإذا رفع إليك أحد مظلمة وأنت على طريق فادعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك‏.‏ وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله مصيخ إلى نازلته ونقله ففي إصاختك له وحنوك عليه أكبر تأنيس واعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن بالله واليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب والسنة وعضدته أقاويل الشرعية والحجة أو في مفسد عائث في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم فليس إلا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء ولا تقل عثرة حسود على النعم عاجز عن السعي فإن إقالته تحمله على القول والقول يحمله على الفعل ووبال عمله عائد عليك‏.‏ فاحسم داءه قبل انتشاره وتدارك أمره قبل إظهاره واجعل الموت نصب عينيك ولا تغتر بالدنيا وإن كانت في يديك‏.‏ لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح‏.‏ واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب والقناعة مال لا ينفد‏.‏ وقد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل‏:‏ ‏"‏ وتركنا عليه في الآخرين ‏"‏ إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة والفعلات الصالحة المذكورة‏.‏ فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذب به عن عباده‏.‏ وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك لم تعدم من ربك فتحاً ييسره على يديك وتأييداً ملازماً لا يبرح عنك إلا إليك بمن الله وحوله وطوله‏.‏ والله يجعلك ممن سمع فوعى ولبى داعي الرشد إذا دعا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ تمت الوصية المباركة فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك وعلا في الدولة كعبه وقوي عند الكافة تأميله وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين إلى أن هلك سنة ست وأربعين فأسى له السلطان واحتفل الشعراء في ريائه وتأبينه فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان ويبعثون حزنه وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد بحضور الملأ وإيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد‏.‏

 الخبر عن مهلك السلطان أبي زكرياء

وما كان عقبه من الأحداث كان السلطان أبو زكرياء قد خرج من تونس إلى جهة قسطنطينة للإشراف على أحوالها ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها ووافته هنالك الدواودة وشيخهم موسى بن محمد‏.‏ وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام‏.‏ وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسطنطينة‏.‏ ثم أبل من مرضه ووصل منها إلى بونة فراجعه المرض‏.‏ ولما نزل بظاهر بونة اشتد به مرضه‏.‏ وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من ولايته ودفن بجامع بونة‏.‏ ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسطنطينة سنة ست وستين بين يدي حصار النصارى تونس‏.‏ وبويع إثر مهلكة ابنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره‏.‏ وطار خبر مهلكه في الآفاق فانتقض كثير من أهل القاصية ونبذوا الدعوة الحفصية وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصية‏.‏ وتمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط فلم يزالوا عليها حيناً من الدهر إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره‏.‏ ولما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة وكان بها أبو يحيى ابن الشهيد من قبل الأمير أبي زكرياء كما نذكره وأبو عمرو بن أبي خالد والقائد شفاف فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس‏.‏ وتولى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي‏.‏ واتفق الملأ على ولاية العزفي وحولوا الدعوة للمرتضى وذلك سنة سبع وأربعين‏.‏ وتبعهم أهل طنجة في الدعوة واستبد بها ابن الأمير وهو يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني كان والياً عليها من قبل أبي علي بن خلاص‏.‏ فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية واستبد عليهم‏.‏ ثم خطب للعباسي وأشرك نفسه معه في الدكاء إلى أن قتله بنو مرين غدراً كما نذكره وانتقل بنوه إلى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء فنزلوا بها وأصهر إليهم الأمير وارتحلوا معهم إلى تونس‏.‏ وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق واستعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان وكان له في ذكر‏.‏ ولما بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكرياء إلى صقلية أيضاً وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية فتساكنوا حتى إذا بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجوا إلى الحصون والأوعار ونصبوا عليهم ثائراً من بني عبس وحاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل‏.‏ وأحاط بهم حتى استنزلهم‏.‏ وأجازهم البحر إلى عدوته وأنزلهم بوجاره من عمائرها‏.‏ ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها وألحقهم بأخوانهم‏.‏ واستولى الطاغية على صقلية وجزائرها‏.‏ ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره والله غالب على أمره‏.‏

 الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر

وما كان في أيامه من الحوادث لما هلك الأمير أبو زكرياء بظاهر بونة سنة سبع وأربعين كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله وأخذ له البيعة عمه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة فجدد بيعته يوم وصوله وتلقب المستنصر بالله‏.‏ ثم جدد البيعة بعد حين واختار لوضع علامته‏:‏ الحمد لله والشكر لله وقام بأعباء ملكه وتقبض على خاصة أبيه الخصي كافور كان قهرمان داره فأشخصه إلى المهدية وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب‏.‏ واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلم ولد عمه محمد اللحياني الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله و مقتل أبيه كان للأمير أبي زكريا من الأخوة اثنان‏:‏ محمد وكان أسن منه ويعرف باللحياني لطول لحيته والآخر أبو إبراهيم وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه‏.‏ ولما هلك الأمير أبو زكرياء وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي وكان عظيماً في قومه فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره إذ كان في سن العشرين ونحوها‏.‏ واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين والصنائع من بيوت الأندلس‏.‏ فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا ورتب جنداً كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة‏.‏ فداخل ابن أبي مهدي أخوي السلطان وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر فلم يجد عندهما ما أفل من ذلك‏.‏ فرجع إلى ابن محمد اللحياني فأجابه إلى ذلك‏.‏ وبايعه ابن أبي مهدي سراً ووعده المظاهرة‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمه محمد اللحياني وحذره من غائلة ابنه وأبلغه ذلك أيضاً القاضي أبو زيد التوزري منتصحاً‏.‏ وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وتقبض على الوزير أبي زيد بن جامع‏.‏ وخرج ومشيخة الموحدين معه فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره واستركب السلطان أولياءه‏.‏ وعقد للعاقد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء ولقي الموحدين بالمصلى خارج البلد ففض جمعهم وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عم السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة وحمل رؤوسهما إلى السلطان‏.‏ وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه وانتهب منازل الموحدين وخربت‏.‏ ثم سكنت الهيعة وهدأت الثائرة وعطف السلطان على الجند والأولياء وجهل الاصطناع فأدر أرزاقهم ووصل تفقدهم‏.‏ وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجر أول الدولة وتزحزح لابن أبي مهدي عن رتبته وتضاءل لاستطالته فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك‏.‏ ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم‏.‏ ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه فقعد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريداً إلى أن كان من أمره ما كان‏.‏

 الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه

فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية وأولها المصيد بناحية بنزرت‏.‏ اتخذه للصيد سنة خمسين فأدار سياجاً على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه سرب الوحش فإذا ركب للصيد تخطى ذلك السياج إلى قوره في لمة من مواليه المتخصين وأصحاب بيزرته بما معهم من الجوارح بزاة وصقوراً وكلاباً سلوقية وفهوداً فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطراً من ذلك القنيص سائر يومه فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها‏.‏ ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة بحائطين ممتدين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقاً سالكاً ما بينهما وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهن إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن فكان ذلك مصنعاً فخماً وأثراً على أيام الدولة خالداً‏.‏ ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك‏.‏ وأساراك بالسان المصمودي هو القوراء الفسيحة‏.‏ وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السمك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحة وغلقه بالعصبة أولي القوة‏.‏ ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب إلى معارج قد نصت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان يناهز عمدها الخمسين أو نحوها ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء‏.‏ ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود ومشاهد الأعياد فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبهة الملك وجلالة واتخذ أيضاً بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر يشتمل على جنات وغير معروشات اغترس فيها من شجره كل فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمان والنخيل والأعناب وسائر الفواكه وأصناف الشجر‏.‏ ونضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السحر والطلح والشجر البري وسمى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والجوائز وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والريحان وشجر الياسمين والخيري والنيلوفر وأمثاله‏.‏ وجعل وسط هذه الرياض روضاً فسيح الساحة وصنع فيه للماء حائزاً من عداد البحور جلب إليه الماء في القناة القديمة كانت ما بين عيون زغوان وقرطجنة تسلك بطن الأرض في أماكن وتركب البناء العادي ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى فعطف هذه القناة من أقرب السموات إلى هذا البستان‏.‏ وأمطاها حائطاً وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى رصيف البناء متباعد الأقطار مربع القنا مجلل بالكلس إلى أن يقمعه الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية فتنبعث في الصهريج إلى أن يفهق حوضه وتضطرب أمواجه تترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهن تباري الفتح ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبتان متقابلتان كبراً وصغراً على أعمدة المرمر مشيدة جوانبها بالرخام المنجد ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه هذنه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفاً من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وتأنق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزهاته من هذه فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الأفاق‏.‏